اللَّهُمَّے صَلِّے عَلَى مُحَمَّدٍ وآلِے مُحَمَّدٍ وعَجِّلْے فَرَجَهُمْے والعَنْے أعْدَاءَهُمے
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
مما لا شكَّ فيه ، أنّ الخوف يبدد نشاط الفرد ، ويُشل طاقته الفكرية والجسمية ، وكان الاِنسانُ الجاهلي في خوف دائم من أخيه الاِنسان ودسائسه ، ومن الطبيعة المحيطة به وكوارثها ، ومن الموت الذي لا سبيل له إلى دفعه ، ومن الفقر والجدب ، ومن المرض وما يرافقه من آلام ، وتخفف العقيدة من وطأة الاحساس بتلك المخاوف التي تشلُّ طاقة الاِنسان عن الحركة والانتاج ، وتجعله غرضاً للهموم والهواجس .
الموت تحفة !
ينبّه القرآن الكريم إلى حقيقة أزلية ، على الاِنسان أن يوطّن نفسه
عليها، وهي : ( كلُّ نفسٍ ذائقةُ الموتِ ) .
وعليه فلا بدَّ مما ليس منه بد ، والموت لا بدَّ أن يدرك الحي يوماً ما ، كما أدرك مَنْ قبله ، وهو شيء لا عاصم منه.. قال تعالى : ( أينما تكُونوا يُدرككُم الموتُ ولو كُنتُم في بُروجٍ مشيَّدة.. ) . وقال : ( قُلْ لَّن ينفعكُم الفرارُ إن فررتُم من الموتِ.. ) .
فالقرآن ـ إذن ـ يؤكد أنّ الموت لا بدَّ منه ، ثم أنّه أمرٌ منوط بإذن الله تعالى وليس بيد غيره ، وهذه حقيقة لها انعكاسات إيحائية على نفس الاِنسان ، بأنَّ أي قوة أرضية أو سماوية لا تستطيع ـ مهما أُوتيت من قوة ـ أن تسلب الحياة عن الاِنسان قال تعالى : ( ما كان لنفسٍ أن تموتَ إلاَّ بإذن اللهِ كتاباً مُؤجَّلاً..) .
ولقد بيّن القرآن الكريم زيفَ مزاعم اليهود الذين كانوا مع حرصهم الشديد على الحياة يتصورون أنهم أولياء الله دون غيرهم ، فكشف عن زيف مزاعمهم بهذا التحدّي الذي يخاطب دفائن النفوس ، ذلك أنَّ المؤمن بالله حقاً لا يخشى الموت إذا حلَّ بساحته ، فالموت هو انتقال من دار فانية إلى دار باقية ، واليهود بما يمتازون به من نزعة مادية طاغية ، يخشون الموت ويتشبثون بالحياة ، ومن هنا واجههم القرآن الكريم بهذا التحدي البليغ قال تعالى : ( قُل يأيُّها الَّذين هادُوَا إن زعمتم أنّكُم أولياءُ للهِ
من دُونِ النّاسِ فتَمنَّوا الموتَ إن كنتم صادقين * ولا يتمنَّونه أبداً بما قدَّمت أيديهم والله عليمٌ بالظالمين ) .
ويقول الاِمام علي عليه السلام : « ... فما ينجو من الموت من خافه ، ولا يعطى البقاء من أحبّه » . والمثير في الاَمر أنّ العقيدة في الوقت الذي تخفف من خوف الاِنسان من الموت ، تصوّر الموت للمؤمن كأنه تحفة ! ينبغي الاِقدام عليه ، وفي ذلك يقول الرسول الاَكرم صلى الله عليه وآله وسلم : « تحفة المؤمن الموت » وإنّما قال هذا لاَنَّ الدنيا سجن المؤمن ، إذ لا يزال فيها في عناء من رياضة نفسه ومقاساة شهواته ومدافعة الشيطان ، فالموت إطلاق له من العذاب ، والاِطلاق تحفة في حقّه لما يصل إليه من النعيم الدائم .
وقال الاِمام أبو عبدالله الحسين عليه السلام لاَصحابه يوم عاشوراء : « صبراً ياكرام ! فما الموت إلاّ قنطرة تعبر بكم عن البؤس والضّراء إلى الجنان الواسعة والنّعيم الدائم ، فأيكم يكره أن ينتقل من سجن إلى قصر ؟.. »
من جانب آخر ، تدعو مدرسة آل البيت عليهم السلام إلى ضرورة معرفة الموت، فإنّ معرفة الشيء قد تبدّد المخاوف منه ، قال أمير المؤمنين عليه السلام : « إذا هبت أمراً فقع فيه ، فإنَّ شدَّة توقّيه أعظم مما تخاف منه » ، وقد روي عن الاِمام علي بن محمد الهادي عليه السلام أنّه قال لمريض من أصحابه ، عندما دخل عليه فوجده يبكي جزعاً من الموت : « يا عبد الله ، تخاف من
الموت لاَنّك لا تعرفه ، أرأيتك إذا اتسخت وتقذّرت ، وتأذيّت من كثرة القذر والوسخ عليك ، وأصابك قروح وجرب ، وعلمت أنّ الغسل في حمام يزيل ذلك كلّه ، أما تريد أن تدخله ، فتغسل ذلك عنك أو تكره أن تدخله فيبقى ذلك عليك ؟ قال : بلى يا ابن رسول الله ، قال عليه السلام : فذاك الموت هو ذلك الحمام ، وهو آخر ما بقي عليك من تمحيص ذنوبك ، وتنقيتك من سيئاتك ، فإذا أنت وردت عليه وجاوزته، فقد نجوت من كلِّ غمٍّ وهمٍّ وأذى ، ووصلت إلى كلِّ سرور وفرح » ، فسكن الرجل واستسلم ونشط ، وغمض عين نفسه ، ومضى لسبيله
ضمن هذا الاطار ، قيل للاِمام الصادق عليه السلام : صف لنا الموت ، قال عليه السلام : «للمؤمن كأطيب ريح يشمّه ، فينعس لطيبه ، وينقطع التّعب والاَلم كلّه عنه، وللكافر كلسع الاَفاعي ولدغ العقارب أو أشدّ.. »
هكذا تقدم العقيدة إشعاعاً من الاَمن يخفف من وطأة الموت ، فإنّه للمؤمن تحفة وراحة . قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : « شيئان يكرهما ابن آدم : يكره الموت فالموت راحة للمؤمن من الفتنة ، ويكره قلة المال وقلة المال أقل للحساب » .
والاَئمة عليهم السلام يؤكدون على الاكثار من ذكر الموت ، لما فيه من آثار تربوية قيّمة ، فهو يميت الشهوات في النفس ، ويهوّن مصائب الدنيا التي تعصف بالاِنسان مثل ريح السموم ، يقول الرسول الاَكرم صلى الله عليه وآله وسلم : « أكثروا
من ذكر الموت فإنّه يمحّص الذنوب ، ويزهّد في الدنيا »
ويقول الاِمام علي عليه السلام : « أكثروا ذكر الموت ، ويوم خروجكم من القبور ، وقيامكم بين يدي الله عزَّ وجل تهون عليكم المصائب » .
ومن وصايا أمير المؤمنين لابنه الحسن عليهما السلام : « يا بُنيَّ أكثر من ذكر الموت ، وذكر ما تهجُمُ عليه ، وتُفضي بعد الموت إليه ، حتى يأتيك وقد أخذت منه حذرك ، وشددت له أزرك ، ولا يأتيك بغتة فيبهرك » . وقال عليه السلام أيضاً : « من أكثر من ذكر الموت رضي من الدنيا باليسي